(جعفر علي ..... ستظل حياً في العقل والقلب )
أحبتي الاعزاء .. أصدقائي الأجلاء .. السلام وعليكم ..
البقاء لجعفر علي ..الخلود لجعفر علي .. السلام على روح جعفر علي ...
قبل أربعين يوما حسب.. أصابني .. وأصاب .. الفن العراقي الاصيل.. والثقافة العراقية الخلاقة , في شتى حقولهاوفراديس إبداعها , جرح .. ليس كالجروح التي تصيب الانسان والتي سرعان ماتلتئم, بعد عام أو عامين أو عقد من السنين أو .. انه جرح من نوع آخر شديد العمق , بعيد الغور.. مفرط الوجع .. بفقد واحدٍ من عمالقة فننا وثقافتنا ..
اليوم ..! ما أشد قسوة الاشياء من حولنا! اليوم يتوجب علينا ,نحن أحبة جعفر علي وعشاق فنه .. الناهلين من ينبوع ثقافته, أن ننزع القشور عن هذا الجرح الندي أمام بعضنا وأمام أنفسنا .. عن هذا الجرح الذي لما يلتئم
وما أحسبه ملتئماً .. ذات يوم .. ما العمل إنها بعض مظالم زماننا الذي لايعرف الرأفة بناسه .
أحبتي.. ثمة فواجع مفاجئة صاعقة , تخترق الانسان حتى النخاع بصورة أكثر وجعاً وتدميراً وفداحة من الصواعق التي تضرب المباني الشوامخ والعمارات العملاقة .. فتهيرها .. وتجعلها صفصفاً, أو أكوام حديد
وأحجار محترقة.
وإذا كان العلم قد حصّن المباني والعمارات بما يقيها ويحميها من آثار الصواعق الكارثية- ولو بحدود –
فأن الانسان, هو الاخر, قد أخترع لنفسه ما يقيه ويحميه أيضاً .. بيد أنه ليس في قدرة ذاك .. ولا في فاعليته
وقوته.. إذ هو لا يقي الواحد منا ولا يحميه إلا لدقائق أو ثوان معدودات .. وسرعان ما تصعقه الحقائق وتصفعه
الوقائع ..
وحين تلقيت فاجعة غياب صديقي وأستاذي جعفر علي ,ورحيله الابدي عن عالمنا صُعقت .ولكي أصمد أمام
هول الصعقة, ولو مؤقتا لبضع هنيهات أستعيد توازني النفسي والجسدي .. أستنجدت بمانعة صواعقي الخاصة
التي تخترعها القوى الكامنة في الكائن البشري ليستعين بها وقت الحاجة , وقت مواجهة الكوارث .إلا أني وجدتها
قد انهارت قبل انهياري .. وتعطلت كلياً وفقدت كل فاعلية وجدوى من شدة الصدمة فاستغثت بخيط أمل أن يكون هناك خطأ. في هذا الخبر /الفاجعة. في هذا النبأ/ الكارثة , هكذا هو حال الانسان الضعيف الموشك على الغرق.. في خضم البحر الغاضب , الهائج ,المائج , بلا حول ولا قوة .. يبتهل ويتوسل الى القشة الهشة: ان .. أن كوني سفينة إتقاذ أو .. أو في الاقل , لوح نجاة .. ولكن بلا جدوى .. فالكارثة حاصلة.. والفاجعة واقعة.. لا مهرب ..ولافرار .. ولا ملاذ...
كثيرون هم الناس الذين لا تعني حياتهم , وكذلك موتهم, شيئاً لأحد , حتى لأقرب المقربين إليهم , فان حياة متكلسة
معطوبة,تمتد وتتواصل ,وتستمر, بين عويل الميلاد وصراخه .. وثم افراحه واتراحه.. وبين حزن الموت ونحيبه
لا تستأثر باهتمام الاخرين.. ولا تثير عدا سؤالاً واحداً,بريئاً أو خبيثاً .. هل كان صاحبها حياً ذات يوم؟ أكان لوجوده حقا؟
وقليلون هم أولئك الذين تتواصل حياتهم وتستمر, بعد غيابهم الجسدي عنها.. بل تبدأ حياتهم , البداية الحقيقية الأقوى,الاكثر خصبا وثراء, والاكثر اثارة للأسئلة الحبلى الولود الت تظل تلد الاسئلة .. وجعفر علي , أحد هؤلاء
القلة النادرة , الذين باتوا يقلون ويندرون يوما بعد يوم , في هذا الزمن البائس التعيس , الذي لا يقدّر رجاله الافذاذ
ولا يعرف كيف يرعاهم .. كما يرعى البستاني زهوره النادرة , بل ولا يتركهم على حالهم. ولا يوفر لهم القدر الادنى من الحرية للتفتح والابداع .. ويظل يقتنصهم واحداً بعد الآخر .. أو يقذف بهم خارجاً .. الى .. الى المجهول .. حيث الغربة والجوع والشقاء ..
بيد أن جعفر علي النابت من الارض .. الملتصق بترابها , المتشرب حتى النخاع هواءها وماءها , الممتلئى بها وبحبها بكل مسامات الجلد وفضاءات الروح , المثقف والمفكر الشجاع ,المقاتل والمحارب,بالكلمة .. والصورة
والموقف .. والتماعات الفكر الوقاد واشراقاته .. ضد التفاهة والزيف والرخص في الفن والسلوك والحياة ..
سيظل الفنار الذي تهتدي بأنواره , الى مرفأ الامان والعطاء سائر السفن المبحرة في بحر الحياة والفن الاكثر لجباً وصخباً , والاعمق متعة وابهاراً , بحر الفن الانساني اللا محدود واللا متناهي .. متزودة ببوصلة مسيرتها
ناهلة من النبع الصافي الثري , هادياً السائرين في درب المخاض الطويل, المخفوف بالالام والمخاطر والاوجاع
ولكن,وفي الوقت نفسه, والمبشر بالميلاد الجديد المترع بالحياة , المستقدم للغد الأفضل ..والمستقبل الأرغد ..
أيها الاحبة ..لست هنا بصدد الحديث عن جعفر علي , الفنان الشامل .. السينمائي المسرحي . الموسيقي(1) المخرج .. المبدع الخلاق في كل تلك المجالات .. ولا عنه باعتباره المعلم الاصيل والاستاذ الاكاديمي , ذا الثقافة الموسوعية الشاملة .. الذي لم يسعفني الحظ أن اكون أحد تلامذته على مقاعد الدراسة والتعلم.. ولكن الزمن البخيل في كل شيء, وعلى خلاف عادته معي .قد حباني ,برفقة طويلة .. امتدت عقوداً , بلا انقطاع, منذ مسرحيتي " السؤال(2)" عام 1976, التي منحها الحياة على خشبة المسرح , وفي أفئدة الجماهير وعقولهم ..
وانا لما اضع بعدُ قدمي على طريق الخلق والابداع ...
بالفخر كله .والاعتزاز كله .. أقول أن جعفر علي هو واحد من اساتذتي الأجلاء من الذين ثبتوا .. قلمي وعقلي وقلبي .. في طريق الفن .. الفن المناضل المكتوي بنار الصدق .. الباحث بمصباح ديوجين في دياجير النهار , قبل ظلمات الليل عن الانسان .الفن الحافر باظافر دامية في الصخور والاحجار والجبال .. ليفجرها ينابيع للحياة ,متدفقة بحبّ الشعب ,حدّ الاستشهاد في سبيله .. والسعي الدائب لتحقيق غده الارغد في وطن ينعم .. بالحرية والسعادة ..
أيها الأخوة .. لست بصدد الحديث عن كل ذلك .. فقد يكون لهذا الحديث وسواه كثير .. وكثير جداً . وقت آخر .. ومكان آخر , إما معه , هناك , حيث شتلناه قبل اربعين يوماً .أو هنا .. حيث فرغت حديقة الحياة من أكبر دوحة
وازكى عطر تبثه في ثناياها أجمل زهرة....
إذا كان الرجل العظيم هو من يعطي أكثر مما يأخذ, ويهب أكثر مما يكسب . ويضحّي أكثر مما ينال , ويزهر أكثر مما يقطف, ويزرع أكثر مما يحصد .. فأني أشهد وأشهد معي الكون.. بأن جعفر علي قد أعطى دون أن
يأخذ .. ووهب وأزهر وشع ودون أن يطمع أو يفكر في مكسب ... في ترفع وزهد .. لا مثيل لهما . أني أمامكم
وأمام التاريخ, وبمسؤولية ضميرية وتأريخية .. اقول إن جعفر علي أحد العظماء الذين أختطفهم منا الزمن الغادر
وسرقهم بلا حياء ولا خجل ..
في قصة قصيرة لتشكوف ثمة سيّدة تدعى " أولكا إيفانوفا" مهووسة بالعظماء والمتميزين والمبرزين في المجتمع
فتحيط نفسها بحفنة من أدعياء العظمة التافهين المستغلين المنتفعين... هملة زوجها .. الطبيب العالم المتفاني في سبيل المرضى , الذي يعمل ليل نهار في خدمة العلم وانقاذ الناس من الامراض الفتاكة , بنكران ذات. ويدفعه فرط انسانيته وايمانه بعمله أن يمتص صديد الدفتريا وجراثيمها من حلق صبيّ موشك على الموت فينقذه من موت محقق ويكتب له حياة جديدة , مضحياً بحياته بلا تردد , فيقول عنه أحد أصدقاء أولكا .. كلمة صدق وحق
((لقد كان على خلافنا جميعاً .. رجلا عظيماً, وممتازاً. نفس من البلور الصافي . كان يخدم العلم وضحّى في سبيل العلم آه .. ما أفدح خسارة العلم فيه)) .. لقد مضى العالم العظيم .." ديموف" مجهولا حتى من قبل زوجته طاويا عظمته في نفس كبيرة سامية تأبى الادعاء أو الدعاية الرخيصة . والاعلان التجاري النفعي ...وترفض الرخص ..والابتذال ..
و"أولكا ايفانوفا" هنا ليست الزوج حسب, وليست المرأة أو الرجل فقط .انما هي الواقع في ترديه نحو الهاوية
إنما هي المجتمع في غبائه المستشري .. هي العصر النفعي اليرجماني في تعامله .. هي الزمان الرديء والمكان
السيء .. فمتى .. ننتبه الى ذلك .. ونتخلص من "أولكا" ولا نظل نندب "ديموف" .. ولا نتحسر على جعفر علي
ولانصرخ .. آه يا جعفر علي ما أفدح خسارة الفن فيك .. ما افدح خسارة التعليم فيك .. أيها البللور الصافي ..النقي .. الشفاف ...
مجداً لجعفر علي , الخلاق الامهر , الذي سرقه منا الزمان اللص ..مبكراً جداً .. وهو في قمة العطاء .. وأوج الابداع ....
و.. آملاً .. الا يسلبنا .. وفاءنا له .. ولتراثه الثري .. ولتأريخه المجيد بذلك نصون جعفر علي ..وندعه يحيا بين ضلوعنا .. وفي عقولنا .. ولن تغيب شمسه فينا .
14/3/1998 بغداد
في اذار – 1998- أقامت دائرة السينما والمسرح , حفلا تأبينياً بأساً فقيراً لواحد من أكبر رواد السينما والفن في العراق , وأغناهم فكراً وإبداعاً وخلقاً وعطاءً هو جعفر علي , الاستاذ الاكاديمي المرموق, والمخرج الفنان الأمهر. والمثقف الموسوعي الكبير وقد دعي اليه كاتب هذه السطور,فتحدث عن صديقه الحميم الراحل المقيم .
ثم جمع مراسل جريدة" الجمهورية"الكلمات التي ألقيت في الحفل ونشرتها ما عدا هذه الكلمة , التي لم تنشرها ولم تعدها اليّ على الرغم من المطالبات العديدة بها. فلم أجد بدّاً من العودة الى " المسوّدات" المكتوبة على قصاصات متفرقة أجمعها ثانية وأنشرها هنا اعتزازاً بالفقيد الغائب الحاضر ابداً... وتساؤلاً عن سبب امتناع الجريدة عن نشرها وأيضا توضيحاً بأن هذه الكلمة قد تكون مختلفة بعض الاختلاف البسيط عن تلك التي القيت في الحفل .. ولكنها تحتفظ كلياً بروحها ونهجها .. بلا تغيير ولا تبديل .. سوى كلمات ممسوحة لم تعد قابلة للقراءة, بعد هذه السنوات الطوال .
محي الدين زنكنه
14/3/2010 السليمانية
--------------------------------------------------------------------------------------------------------
(1) في مسرحية "فيت روك" لبيتر بروك.. التي كانت صرخة قوية ضد الحرب القذرة في فيتنام .. وقد أبدع جعفر علي أيّما إبداع في إخراجها وقيادة تلك المجاميع الكثيرة من الممثلين والممثلات .. ولعلها المرة الأولى التي يشاهد فيها الجمهور مسرحية إحتفالية بهذه الضخامة .. وبهذا القدر الخلاق من الغنى والتنوع .. لقد كانت بحق مسرحية رائدة بكل ما فيها .. من الرؤية الاخراجية العميقة الى التمثيل الجماعي المثقف ( عشرات من طالبات وطلاب أكاديمية الفنون الجميلة ) ممن يتعامل معظمهم للمرة الأولى مع المسرح.. أمام هذا الجمهور الغفير , وفي هذا الفضاء الشاسع المفتوح (قصر الأخيضر) وقد وضع لها الراحل الكبير .. أغاني وألحاناً في غاية الروعة والجمال والابداع .. وفجّر تلك الحناجر الشابة,التي لم تمارس الغناء من قبل .. بألحان كورالية متناسقة ومتناغمة .. ورددت آثار الاخيضر وأطلالها المهملة والمتروكة والمنسيّة .. صدى الاصوات الشابة العذبة التي تصدح بأغان في غاية الروعة والكمال ..
وفي مهرجان الاغنية السياسية .. الذي اقيم انتصاراً لشعب شيلي في مواجهة الفاشية الجديدة للعقداء السود .. وضع فقيدنا أكثر من لحن .. وأغنية مثلما وضع ألحان سائر أغاني مسرحية "السؤال" لكاتب هذه السطور ..
وكانت مثار أعجاب الجمهور العريض الذي كان يتسايق على الحضور..
(2) بخصوص مسرحية " السؤال" التي أستغرق الاستعداد لها .. وعرضها شهوراً عدة .. كنا خلالها في لقاءات شبه دائمة .. لا بد لي من تحفيز الذاكرة وتنشيطها لا ستذكارها .. والكتابة عنها ذات يوم ..